فصل: مسألة الشهادة لا تثبت إلا برجلين أو رجل وامرأتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة حضره الموت فقال ما شهد به ابني علي من دين فهو مصدق:

وسئل مالك: عن رجل قال عند موته أو في حياة منه وصحة: ما شهد به علي فلان فهو مصدق في ديون الناس قبلي، والمسمى عبد له أو لغيره أو رجل محدود أو نصراني أو امرأة قال: سمعت مالكا يقول في رجلين تنازعا في أمر فقال أحدهما لصاحبه: فلان يشهد عليك بما أقول، فقال الآخر: اشهدوا أن ما قال فلان حق وأنا أرضى به، فسئل فشهد فقال: ما أقر ولا أرضى به ولا ظننت يشهد بمثل هذا، قال مالك: لا يلزمه شيء مما قال، قال ابن القاسم: يريد أن يرد إلى وجه ما يحكم به الحاكم، ولا يلزمه رضاه بالرجل، وسئل عن رجل حضره الموت فقال: ما شهد به ابني علي من دين أو شيء فهو مصدق من دينار إلى مائة دينار أو لم يوقت وقتا ثم مات فشهد ابنه بذلك لقوم بديون، وشهد لبعض الورثة بدين أيضا، قال: لا يثبت ذلك عندي إلا بيمين إن كان عدلا قال: ومذهبه عندي مذهب القضاء، قال: وإن لم يكن عدلا أو نكل المشهود له عن اليمين لزم الشاهد قدر ميراثه من هذا الدين، وإن كان سفيها لم يجز إقراره في ميراثه ولم يحلف طالب الحق.
قلت: وهذا قول مالك في السفيه إن إقراره لا يلزمه؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: كذا وقعت هذه المسألة: وسئل مالك عن رجل قال عند موته أو في حياة منه وصحة: ما شهد به علي فلان فهو مصدق إلى آخر السؤال، وهو غلط؛ لأن المسئول إنما هو ابن القاسم، وذلك أنه سئل عن الرجل يشهد على نفسه في صحته أو في مرضه أن فلانا مصدق فيما يشهد به علي من ديون الناس، فذهب إلى أن ذلك لا ينفذ عليه ولا على ورثته بعده ولا يلزمهم ذلك إلا على وجه ما يحكم به من شهادة الشاهد العدل، واحتج لذلك بما سمعه من مالك في الرجلين يتنازعان في الأمر فيرضى أحدهما فيه بشهادة رجل أن ذلك لا يلزمه، وقد مضى في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم تحصيل الاختلاف في مسألة الرجلين يتنازعان في الشيء فيرضى أحدهما في ذلك بشهادة رجل هل يلزمه ما شهد عليه أم لا؟ ولا يدخل شيء من ذلك الاختلاف عندي المسألة التي سئل عنها ابن القاسم؛ لأن قوله في صحته أو في مرضه: ما شهد به علي فلان وهو ممن تجوز شهادته أو لا تجوز من ديون الناس قبلي فهو مصدق في ذلك حكم على ورثته، فلا يجوز له أن يوصي بذلك، ولم يرد ابن القاسم بما احتج به من قول مالك المساواة بين المسألتين، وإنما وجه ما ذهب إليه أن مالكا إذا قال في مسألة المتنازعين إن التصديق لا يلزم فيه وإن كان قد قيل: إنه يلزم فأحرى ألا يلزم في مسألة الذي أوصى أن يصدق فلان فيما يشهد به عليه من الديون، وكذلك مسألة الذي حضره الموت فقال، ما شهد به ابني علي من دين أو شيء فهو مصدق من كذا إلى كذا أو دون توقيف لا يدخل الاختلاف المذكور فيه لما ذكرنا من أنه حكم على ورثته وإن كان أصبغ قد أنكر هذه الرواية في الواضحة، وقال: لا أعرفها من قوله، ولكن يصدق من جعل إليه التصديق كان عدلا أو كان غير عدل كقول مالك فيمن قال: وصيتي عند فلان فما أخرج فيها فأنفذوه أن ذلك نافذ، وما استثنى مالك عدلا من غير عادل، وذلك سواء ما لم يسم من يتهم عليه تهمة بينة من أقاربه ممن هو كنفسه فإنكاره ليس بصحيح إذ لا يشبه مسألة الوصية التي شبهها بها مسألة التصديق في الشهادة بالدين لوجوه منها أن الثلث له حيا وميتا، فله أن يوصي به لمن شاء من غير الورثة بخلاف إقراره بالديون، وأيضا فإن الوصية قد خفف أمر الشهادة فيها بخلاف غيرها فأجيز فيها شهادة الموصى له فيها بالشيء اليسير، وأجاز بعض أهل العلم فيها شهادة الكافر في السفر، وقول أصبغ: إن مالكا لم يشترط العدالة في مسألة الوصية ليس بصحيح أيضا؛ لأن الذي له في رسم البر من سماع ابن القاسم من كتاب الوصايا اشتراط العدالة، وسحنون هو الذي قال: إن قول الذي قال الميت صدقوه مصدق عدلا كان أو غير عدل وهو ظاهر ما في المدونة والموازية، وبالله التوفيق.

.مسألة هلك وترك ابنين فاختلفا في وصية ألف دينار لرجل:

وسألته: عن رجل هلك وترك أربعة من الولد فشهد اثنان لرجل بألف دينار، وقال الآخران: هي لفلان لغير ذلك الرجل وصية، قال: يقضى بأعدل الشهود، قلت: فإن استويا في العدالة؟ قال: تقسم الألف بينهما، قلت له: فرجل هلك وترك ابنين فاختلفا في وصية ألف دينار لرجل قال أحدهما: هو فلان، وقال الآخر: بل فلان؟ قال: يدعى اللذان أوصى لهما بالألف إلى الأيمان فإن حلفا كلاهما مع شهادة الابنين لهما اقتسما الألف، وإن نكل أحدهما كانت الألف لمن حلف منهما. قلت: فإن نكلا عن اليمين وقالا: لا علم لنا؟ قال: أرى أن يدفع كل واحد منهما من الابنين الذي يصيبه من الألف إذا قسمت على الورثة إلى من شهد له، قال: وإن لم يكن غيرهما وكانت تخرج من الثلث أذياها، وإن كان معهما غيرهما لم يكن عليهما أكثر مما صار في أيديهما منها.
قال محمد بن رشد: قوله في المسألة الأولى يقضى بأعدل الشهود صحيح على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها؛ لأن البينة قد كذبت بعضها بعضا في عين المشهود له وفيما شهدت له به إن كان دينا أو وصية، وأما قوله: إن الألف تقسم بينهما إذا استويا في العدالة فمعناه إن حملها الثلث ولم يكن للميت وارث غيرهم، مثال ذلك أن يترك المتوفى ثلاثة آلاف دينار ولم يترك من الورثة سوى الأربعة بنين، فإنه يقال للابنين اللذين شهدا بالوصية: ادفعا إلى الذي شهدتما له خمسمائة دينار ثلث ما ورثتماه، ويقال للآخرين اللذين شهدا بالدين: ادفعا إلى الذي شهدتما له نصف دينه؛ لأنكما قد ورثتما نصف مال المتوفى؛ وذلك لأن البينتين إذا تكافأتا في العدالة سقطتا ووجب على كل واحد من الشهود أن يعطي الذي شهد له ما يجب له في حظه من الميراث لو ثبت ما شهد له به ولم يجب على سائر الورثة شيء إن كان للميت وارث سواهم، بيان هذا أنه لو ترك المتوفى ألفي دينار وأربعمائة دينار وترك ثمانية من الولد فشهد اثنان منهم لرجل بألف دينار، وقال آخران منهم: بل هي لفلان لغير ذلك الرجل وصية لوجب على اللذين شهدا بالوصية أن يدفعا إلى الذي شهدا له بها ثلث ما يجب لهما بالميراث وذلك مائتا دينار؛ لأنه يجب لكل واحد منهما ثلثمائة دينار، ولو وجب على اللذين شهدا بالدين أن يدفعا إلى الذي شهدا له ربع ما يجب لهما بالميراث، وذلك مائة وخمسون دينارا خمسة وسبعون من نصيب كل منهما؛ لأنه يجب لكل واحد منهما ثلثمائة دينار، ولم يجب على سائر البنين فيما ورثاه شيء إذا لم تثبت الشهادة لواحد منهما وبطلت بتكذيب بعضها بعضا، وقد رأيت لابن دحون أنه قال: ولو كان الثلث لا يحمل الألف لبطلت شهادة اللذين شهدا أنها وصية، وكانت الألف للذي شهد له الآخران بها دينا؛ لأن اللذين شهدا أنها وصية يجران إلى أنفسهما؛ لأن ما لم يحمل الثلث من الألف يكون على قولهما ميراثا لهما ولسائر الورثة فيتهمان على ذلك، وهما كما قال إذا تقدمت الشهادة بالدين، وأما إن تقدمت الشهادة بالوصية أو جاء الشهود معا فلا وجه للتهمة في ذلك، ويأتي على رواية المدنيين عن مالك أن تعمل الشهادتان جميعا حمل الثلث الألف أو لم يحملها، فيقضي بالألف من رأس المال للذي شهد له الابنان أنها دين له، ويقضي بالألف من ثلث بقية المال للذي شهد له الآخران أنها له وصية إن حملها الثلث وإلا فما حمل منها، ولو كان المشهود له رجلا واحدا فقال الابنان: أوصى له بألف دينار وصية، وقال الآخران: بل أقر له بها دينا لكانت له الألف بشهادتهما جميعا حملها الثلث أو لم يحملها على القول بأن الشهادة تلفق إذا اتفقت فيما يوجبه الحكم وإن اختلفت في اللفظ والمعنى، وعلى القول بأنها لا تلفق يقضي بأعدل البينتين فإن استوتا في العدالة سقطتا ووجب على كل واحدة من البينتين للمشهود له ما يجب له في نصيبه بإقراره له، وكذلك لو كانا ابنين فشهدا له بألف، وقال أحدهما: هي وصية، وقال الآخر: بل هي دين لتخرج الأمر أيضا على الاختلاف في تلفيق الشهادة، فعلى القول بأنها تلفق تكون له الآلف بشهادتهما إن حملها الثلث، وإن لم يحملها الثلث كان المشهود له بالخيار إن شاء أخذ ما حمل الثلث من الألف دون يمين، وإن شاء حلف مع شهادة الذي شهد له بها أنها دين وأخذ جميعها، وعلى القول بأنها لا تلفق لابد له من اليمين فيحلف مع أيهما شاء ويأخذ ما وجب له بشهادته، وقد مضى في رسم العرية تحصيل القول فيما يلفق من الشهادات المختلفات مما لا يلفق منها فلا معنى لإعادته، وأما المسألة الثانية فهي صحيحة بينة في المعنى، وفيما مضى ما فيه بيان لها؛ لأن الشهود إذا اختلفوا في أعيان المشهود لهم فقد أكذب بعضهم بعضا، وإنما قال: إن الموصى لهما يحلف كل واحد منهما مع شهادة الابنين لهما أو يحلف كل واحد منهما مع الذي شهد له منهما؛ لأن الشاهدين لا تبطل شهادتهما بتكذيب بعضهما بعضا، ولو كانوا أربعة فشهد اثنان منهم أنه أوصى لرجل بألف، وقال الآخران: بل إنما أوصى بها لفلان رجل آخر لسقطت الشهادتان جميعا ولم يكن لواحد من المشهود لهما إلا ما يجب له في نصيب الذي شهد له بإقراره، وبالله التوفيق.

.مسألة الشهادة لا تثبت إلا برجلين أو رجل وامرأتين:

وسألته: عن امرأتين شهدتا على شهادة رجل وشهد معهما امرأتان على حق من الحقوق هل يجوز ذلك؟ قال مالك: تسقط شهادة المرأتين على شهادة الرجل ويحلف صاحب الحق مع شهادة المرأتين اللتين شهدتا على أصل الحق، قال: ولا تجوز شهادة النساء على شهادة رجل لو كن ألفا إلا مع رجل؛ لأن الشهادة لا تثبت إلا برجلين أو رجل وامرأتين، وامرأتان وألف امرأة سواء حيث لا تجوز شهادتهن إلا مع رجل.
قال محمد بن رشد: هذا معلوم مشهور من مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها أنه لا تجوز شهادة امرأتين على شهادة رجل إلا مع رجل، ولا شهادة امرأتين على شهادة امرأتين إلا مع رجل، فلا يشهد على شهادة رجل ولا على شهادة امرأتين إلا رجلان أو رجل وامرأتان خلاف مذهب ابن الماجشون وسحنون في أن شهادة النساء لا تجوز ألا فيما يجوز فيه شاهد ويمين، وقد مضى هذا في رسم العشور.

.مسألة شهد على شهادة نفسه:

وسألته: عن رجل شهد على شهادة نفسه وشهد مع آخر على شهادة رجل في ذلك الأمر نفسه، قال: لا أرى أن تجوز شهادته إلا على شهادة نفسه، وأما على شهادة رجل يشهد بمثل ما شهد به فلان فإنه لا يجوز؛ لأنه كأنه عاد في تحقيق شهادته.
قال القاضي: هذا بين على ما قاله؛ لأنه إذا شهد بشهادة وشهد مع آخر على شهادة رجل بتلك الشهادة فلم يتم الحكم إلا بشهادته وحده، وهذا نحو ما تقدم في رسم شهد على شهادة ميت في الشاهدين بالحق يزكي أحدهما صاحبه.

.مسألة تعديل الأخ أخاه وشهادته له:

قلت لابن القاسم: هل يجوز أن يعدل الرجل امرأته والمرأة زوجها والأخت أخاها والأخ أخته؟ قال مالك: لا تعدل المرأة أحدا لا امرأة ولا رجلا لا فيما تجوز شهادتهن ولا في غيره، قال: والرجل لا يقبل منه تعديل امرأته كما لا تجوز شهادته لها.
قلت: فالأخ لأخته؟ قال: نعم؛ لأن شهادته تجوز لها إذا كان عدلا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه من لا يجوز للرجل أن يشهد له فلا يجوز له أن يعدله؛ لأنه إذا اتهم في شهادته له فهو أحرى أن يتهم في تعديله إياه، ألا ترى أنه قد اختلف في تعديل الأخ أخاه وشهادته له جائزة، وقد مضى تحصيل الاختلاف في ذلك في أول رسم من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.

.مسألة شهادة الوارث فيما وهب من مال موروثه في مرضه:

وسألته: عن رجل حضره الموت وله أخوان شاهدان في ذكر حق، فقال لهما: إنه لا شاهد لي غيركما، وأنتما ترثاني وابنتي فلانة، فلو أسلمتما لها ميراثكما مني أو وهبه أحدكما صاحبه ليكون الواهب شاهدا ففعل وتصدق على أخيه بموروثه، ثم هلك الرجل، قال: لا تجوز شهادته؛ لأنه حق قد ثبت لهما في المرض، فلا أراه يجوز.
قال محمد بن رشد: لم يجز ابن القاسم في هذه الرواية شهادة الوارث فيما وهب من مال موروثه في مرضه، وأعتل لبطلانها بأن ذلك حق وجب له في مرض الميت فلم تجز شهادته فيه إذ لا تجوز شهادة أحد فيما وهب من ماله لابنه؛ لأنه يتهم في تصحيح هبته، وفي قوله لأنه حق قد ثبت لهما في المرض نظر إذ لا يجب لهما الميراث إلا بعد موته، وإنما يجب لهما في مرضه التحجير فيما زاد على الثلث، وفي الوصية لوارث، وقد أجاز أصبغ في نوازله بعد هذا من هذا الكتاب شهادتهما في ذلك، وأعتل لهما بأنهما خرجا عنه بالهبة قبل أن يصير إليهما بالملك التام، فتأول بعض الناس عليه أن الهبة على تعليله لا تلزمهما، وليس ذلك بصحيح، إذ لو لم تلزمهما الهبة إلا أن يجيزاها بعد موته لما صح أن تجوز شهادتهما؛ لأن إجازتهما لهبتهما بعد موته كابتداء الهبة، وإجازته لهبتهما ولشهادتهما بين من قوله فلا أعرف نص خلاف في أن هبة الوارث لميراثه في مرض الموروث جائزة وهو بين من قول ابن القاسم في هذه الرواية ونص من قوله في رسم الأقضية والحبس من سماع أصبغ من كتاب الصدقات والهبات؛ لأنه قال فيه: إن ذلك يلزمه إلا أن يقول: كنت أظنه يسيرا لا أعلم أنه يبلغ هذا القدر ويشبه ذلك من قوله فيحلف على ذلك ولا يلزمه، ومثله لمالك في الموطأ؛ لأنه قال فيه: إن الميت إذا قال لبعض ورثته إن فلانا- لأحد من ورثته- ضعيف، وقد أحببت أن تهب له ميراثك فأعطاه إياه أن ذلك جائز إذا سماه له الميت، إذ لا فرق بين أن يهب أحد الورثة ميراثه لمن سواه من الورثة أو لأجنبي من الناس ولا بين أن يسميه له الميت أو لا يسميه له، وما في رسم نقدها من سماع عيسى من كتاب الصدقات والهبات محتمل للتأويل على ما سنذكره إذا مررنا به إن شاء الله، ومن الناس من ذهب إلى أن هبة الوارث لميراثه هي مرض الموروث لا تجوز؛ لأنه وهب ما لم يملك بعد على ما في المدونة من أن المريض إذا استأذن ورثته في أن يوصي لبعضهم، فأذنوا له لزمهم إذ لم يحكم له بحكم المالك في الميراث للمرض، وإنما كان له التحجير على موروثه فيه، فإذا رفع عنه التحجير بالإذن لزمه وإن لم يكن مالكا للمال، وقال: إن ذلك يقوم أيضا من قول مالك في الموطأ إن الوارث إذا وهب لموروثه في مرضه ميراثه منه فمات قبل أن يقضى فيه أنه يرد إليه، إذ لو أجاز هبته له لقال: إنه لا يكون له من ذلك إلا ميراثه منه، قال: فكما لا تجوز هبته له من أجل أنه لم يتقرر له عليه ملك فكذلك لا تجوز لغيره، وليس ذلك بصحيح، والفرق بينه وبين غيره أنه إذا وهبه له فقد علم أن القصد في ذلك إنما هو ليرفع الحجر عنه في أن يصرفه إلى من أحب من الورثة، إذ لا يحتاج إلى هبته إن صح ولا ينتفع بها إن مات، فإذا لم يقض فيها بشيء حتى مات رجعت إلى الواهب، وإذا وهبه لغيره فقد ملكه بالهبة ما وهبه إياه، ولا يقال إن ذلك لا يجوز من أجل أنه وهبه ما لم يملكه بعد؛ لأنه لم يثبت له الآن، وإنما وهبه له بشرط ملكه له بموت موروثه، كما لو قال: إن ملكت فلانا فهو حر أو إن ملكته فهو لفلان، فلا فرق في وجه القياس بين صحة الموروث ومرضه في هبة الوارث لميراثه منه، والتفرقة في ذلك بين الصحة والمرض استحسان، ويتحصل على هذا في المسألة ثلاثة أقوال: الجواز، والمنع، في الحالين، والفرق بينهما وبالله التوفيق.

.مسألة من كان عدلا مؤتمنا فلا يحتاج إلى اختبار صدقه:

وسئل: عن رجل يعرف الدابة أو الرأس ويشهد له على ذلك هل يجمع له دواب أو رقيق فيدخل فيهم، ثم يقول للشهود أخرجوها؟ قال: لا ليس ذلك على أحد في دواب ولا رقيق ولا ثياب ولا غير ذلك، وهذا خطأ ممن يفعله إذا كان الشهود عدولا لا يشك في عدالتهم قبل شهادتهم، ولم يلتمس منهم غير ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن من لا يؤتمن في قوله حتى يختبر صدقه من كذبه فليس ممن تجوز شهادته، ومن كان عدلا مؤتمنا في قوله مقبول الشهادة فلا يحتاج إلى اختبار صدقه من كذبه، وبالله التوفيق.

.مسألة شهد لرجل بحق على رجل وعلى الشاهد نفسه حق عليهما جميعا:

وسئل: عن شاهد شهد لرجل بحق على رجل وعلى الشاهد نفسه حق عليهما جميعا وليس للمشهود له عليهما أيهما شاء أخذه بحقه قضاه أحدهما ثم شهد له صاحبه، قال: تجوز شهادته إذا كان عدلا على ما ذكرت، وليس في هذا تهمة إذ لم تقع شهادته على المشهود عليه بشيء ينتفع به الشاهد أو يكون عليه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه إذا لم يكن بعضهما حميلا ببعض فلا منفعة للشاهد الذي لم يقض ما عليه في قضاء صاحبه ما عليه، إذ لا يلزمه إلا ما عليه، قضى صاحبه ما عليه أو لم يقض، وبالله التوفيق.

.مسألة الترجيح بين البينتين هل يكون بزيادة العدالة خاصة:

وسئل ابن دينار: عن الرجلين يدعيان الشيء فيأتي كل واحد منهما ببينة لا يعرفها الإمام إلا بالتعديل فيعدل هل يقضي بذلك الشيء لمن هو أعدل معدلين بمنزلة الشهداء إذا كان بعضهم أعدل من بعض، فقال: ما علمت ذلك إلا في الشهداء ولا أرى ذلك في المعدلين.
قال محمد بن رشد: هذا قول ابن الماجشون في الواضحة، وروى مطرف عن مالك فيها أنه يؤخذ بأعدل المعدلين، وهذا الاختلاف مبني على الترجيح بين البينتين هل يكون بزيادة العدالة خاصة أو بزيادة العدالة وبما يغلب به على الظن صحة الشهادة من كثرة الشهود وما أشبه ذلك، فمن ذهب إلى أن الترجيح لا يكون إلا بزيادة العدالة خاصة وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك يقول: إنه يقضي بأعدل المعدلين؛ لأن زيادة عدالة أحد المعدلين لا يفيد زيادة عدالة المعدلين، وإنما يفيد زيادة غلبة الظن بصحة عدالة المعدلين، وهو قول ابن الماجشون وابن دينار، ومن ذهب إلى أن الترجيح يكون بزيادة العدالة وبما يغلب به على الظن صحة الشهادة من كثرة العدد وما أشبه ذلك يقول إنه يقضى بأعدل المعدلين؛ لأن زيادة عدالتهم وإن لم تفد زيادة عدالة المعدلين، فإنها تفيد زيادة غلبة الظن بصحة عدالتهم ككثرة العدد الذي يفيد زيادة غلبة الظن بصحة الشهادة، وهو قول مالك في رواية مطرف عنه في هذه المسألة، وبالله تعالى التوفيق.
تم كتاب الشهادات الثاني بحمد الله تعالى.

.كتاب الشهادات الثالث:

.مسألة العدل يشهد عند القاضي ثم يعود فيزيد في شهادته أوينقص:

كتاب الشهادات الثالث من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب الكبش قال يحيى: سألت ابن القاسم عن العدل يشهد عند القاضي ثم يعود فيزيد في شهادته أو ينقص، فقال: إذا كان منقطع العدالة ممن لا يتهم في عقله فما زاد أو نقص قبل أن يقع الحكم بعلمه فهو مقبول منه، وأما ما رجع عنه أو نقصه فيما كان شهد به أو زاد كلاما فيه نقص الشهادة الأولى وذلك بعد أن يحكم بشهادته فهو غير مقبول، ولا يفسخ الحكم الذي كان من تحويله شهادته، ولا لما زاد أو نقص، وأما ما زاد بعد الحكم مما زعم أنه كان نسيه مثل أن يكون شهد لرجل على رجل بثلاثين دينارا ثم يذكر أنها كانت خمسين فجاء يشهد بتمام الخمسين، فإن ذلك يقبل منه وتجوز شهادته فيه.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا كان منقطع العدالة ممن لا يتهم في عقله فما زاد أو نقص قبل أن يقع الحكم بقوله فهو مقبول منه، يريد أنه يقبل قوله في أنه شبه عليه فتجوز شهادته فيما يستقبل ولا يؤدب، ولو كان على غير ذلك من ظهور عدالته لم يقبل قوله في أنه شبه عليه وردت شهادته فيما يستقبل، هذا دليل قوله في هذه الرواية وظاهر ما في كتاب السرقة من المدونة، قال فيه ولو ودب لكان لذلك أهلا، ومثله حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ إلا أنه لم يذكر الأدب خلاف ظاهر ما في كتاب الأقضية من المدونة أنه يقبل قوله في أنه شبه عليه، وإن لم يكن مبرزا في العدالة فتجوز شهادته فيما يستقبل إلا أن يعرف منه كذب في شهادته فترد شهادته في هذا وفيما يستقبل، يريد ويؤدب، وقال سحنون: لا يؤدب الراجع عن شهادته قبل الحكم لئلا يمتنع من شهد على باطل عن الرجوع عن شهادته خوف العقوبة، كالمرتد إذا تاب لم يعاقب، وقوله: فهو غير مقبول في الذي رجع بعد الحكم عن شهادته أو نقص شيئا منها أو زاد كلاما فيه نقص الشهادة يريد أن قوله: لا يقبل في أنه شبه عليه فيسقط عنه الغرم، بل يغرم وإن شبه عليه، وهو ظاهر ما في أول رسم من سماع ابن القاسم ومثل ما في كتاب السرقة من المدونة، وقيل: معناه أن قوله غير مقبول في فسخ الحكم؛ لأنه يمضي ولا يفسخ برجوعه عن شهادته باتفاق، وقيل: معناه أن شهادته لا تقبل فيما يستقبل، وإن شبه عليه، وهو قول مالك في كتاب الأقضية من المدونة خلاف قول سحنون: إنها لا ترد فيما يستقبل إذا شبه عليه، فتحصيل القول في هذه المسألة أن الشاهد إذا رجع عن شهادته، وقد كان شبه عليه فإن كان ذلك قبل الحكم بشهادته قبل رجوعه وجازت شهادته فيما يستقبل، وإن كان ذلك بعد الحكم بها لم يرد الحكم، واختلف هل يضمن أم لا؟ وهل ترد شهادته فيما يستقبل أم لا؟. ويقبل قوله إنه شبه عليه إذا كان مبرزا في العدالة باتفاق، وإذا لم يكن مبرزا فيها على اختلاف، وإذا رجع عن شهادته أو عن شيء منها ولم يأت في رجوعه بما يشبه وتبين أنه تعمد الزور أدب ولم تقبل شهادته فيما يستقبل كان رجوعه قبل الحكم أو بعده، وقيل: إنه لا يؤدب إذا كان رجوعه قبل الحكم ويضمن ما أتلف بشهادته إذا كان رجوعه بعد الحكم، ولا يرد الحكم، وبالله التوفيق.

.مسألة ادعى عليه أنه شهد في ذكر حق له على فلان فقال ما أذكر ثم ذكر:

قلت: فإن سئل وهو عند القاضي فقيل له: إن فلانا قد ادعى أنك تشهد في ذكر حق له على فلان، فقال: ما أذكر أنه أشهدني عليه بشيء وماله عندي علم، ثم انصرف فذكر فعاد إلى القاضي بعد أيام فشهد في ذلك الحق أيقبل قوله؟ قال: نعم، وتجوز في ذلك شهادته إن كان ممن لا يشك في عدله ولا يتهم في شيء من علمه، ومثل ذلك المريض يسأل في مرضه عن علم كان عنده فيقول: مالك عندي علم، فيصح فيشهد في ذلك الحق، فيقال: ما منعك أن تشهد إذ سألك وأنت مريض؟ فيقول: خفت على نفسي الخطأ والوهم في الزيادة والنقصان لشدة ما كان بي من المرض إن ذلك يقبل منه إذا كان لا يتهم لعدله وصلاح حاله، فتجوز في ذلك الحق شهادته.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته مرة ثانية، وبالله التوفيق.

.مسألة استقال الشاهد قبل القضاء أو بعده وادعى أنه غلط ثم تذكر:

قال سحنون: وأنا أقول إذا استقال الشاهد قبل القضاء أو بعد القضاء وادعى أنه غلط ثم تذكر أو شبه عليه قبل قوله، وأقيل في شهادته فيما يستقبل إذا كان عدلا مرضيا.
قال محمد بن رشد: أما إذا كان ذلك قبل القضاء فلا اختلاف في أنه يقبل قوله فتجوز شهادته فيما يستقبل ولا يؤدب إذا كان عدلا مرضيا، وأما إذا استقال بعد الحكم فقيل: إنه لا تجوز شهادته فيما يستقبل وإن شبه عليه، وهو قول مالك في الأقضية من المدونة خلاف قول سحنون هذا إنه تجوز شهادته فيما يستقبل إذا شبه عليه، وكذلك يختلف أيضا في وجوب الغريم عليه إذا شبه عليه، وأما الأدب فلا يجب عليه إذا شبه عليه، وقد مضى فوق هذا القول على ذلك كله مستوفى، وبالله التوفيق.

.مسألة للقاضي أن يكتب في تعديل من شهد عنده:

وسألته: عن القاضي يشهد عنده الرجل من بعض أهل الكور التي قد استقضى لأهلها قاض، فإن سأله من يعدله لم يقدر الشاهد على ذلك، ولعله أن يكون من أهل العدالة حيث يعرف بكورته، أترى للقاضي أن يكتب إلى قاضي بلده أن يعدل عنده ثم يكتب إليه بالذي ثبت عنده من تعديله، والقاضي الذي شهد عنده يخاف أن يكون قضاة الكور غير محتاطين في تعديل من قبلهم، فلعل الشاهد إن كان غير عدل أن يتعدل لضعف حال القضاة، فقال: لا ينبغي للقاضي إذا شهد عنده من لا يعرف أن يكتب في تعديله إلا إلى قاض يرضى حاله ويثق باحتياطه ويكون على يقين من حسن نظره لنفسه في دينه، وما حمل من أمر من ولي النظر له، فإن كان لا يثق به حتى لا يكون في نفسه مأمونا في دينه فطنا في نظره غير مخدوع لغفلة فلا يكتبن إليه في تعديل أحد يشهد عنده، وإن كان في الكور رجال يرضى القاضي حالهم ويعرف صلاحهم فليكتب إليهم سرا أن يسألوا له عن الشاهد سؤالا حثيثا، قال: فإن كان عندهم مشهورا بالعدالة معروفا بالصلاح فكتبوا إليه بذلك وهو بناحيتهم واثق أجاز شهادته وإلا تركه حتى يتعدل عنده بمن يرضى.
قال محمد بن رشد: قال في هذه الرواية وفي سماع زونان بعد هذا إنه لا يجوز للقاضي أن يكتب في تعديل من شهد عنده إلا إلى قاض يرضى حاله ويثق باحتياطه ولم ينص في شيء من ذلك هل يلزمه أن يكتب إليه في تعديل من شهد عنده إذا كان من أهل العدالة والرضى أم لا يلزمه ذلك، والذي أقول به أنه يلزمه ذلك إذا كان ذلك القاضي من أهل عمله على ما قاله في رسم الأقضية لابن غانم من سماع أشهب من كتاب الأقضية، ولا يلزمه ذلك إلا أن يشاء إذا لم يكن ذلك القاضي من أهل عمله على ما يأتي في رسم الأقضية من هذا السماع بعد هذا، إلا أن يكون المطلب في حق هو لله من طلاق أو عتق أو ما أشبه ذلك؛ لأنه يلزمه أن يحتاط في الفروج بما يجد إليه السبيل من الكتاب إلى من يعلم عدالته من القضاة، وأما ما لم يكن فيه حق لله فلا يلزمه السؤال عن الشاهد إلا في موضعه، ويستحب له أن يكتب إلى أهل عمله من القضاة وإلى عدول موضع الشاهد؛ لأن الكشف عن البينة على القاضي الذي شهدت عنده، فإذا عجز عن ذلك كلف المشهود له تزكيتهم عنده، فهذه الروايات كلها يفسر بعضها بعضا، وقد حمل بعض أهل النظر ما في هذا الرسم من هذا السماع وما في سماع زونان على أنه يلزمه أن يكتب في تعديل من شهد عنده إلى قاضي موضعه، وإن لم يكن من أهل عمله كما لو كان من أهل عمله، وهو من التأويل البعيد، وبالله التوفيق.

.مسألة القاضي لا يقبل الشاهد إذا لم يعرفه:

وسئل ابن القاسم: عن الشاهد لا يعرفه القاضي بعدالة منقطعة ولا بحال فاسدة وهو ممن يشهد الصلوات في المساجد ولا يعرف بأمر قبيح، أيجيز شهادته أم لا؟ فقال: لا ينبغي له أن يقبل إلا عدلا ثابت العدالة.
قلت له: فصف لي الذين ينبغي أن يجيز شهادتهم على علمه بهم والذين يردهم على علمه بهم ومن يجوز له الوقوف في أمره حتى يعدل عنده فقال: من عرفه بعدالة ممن لو لم يكن قاضيا لزمه أن يعدله عند غيره إذا شهد ولم يسعه الوقوف في تعديله أجاز شهادته إذا شهد عنده، ومن عرفه بسوء حال ممن لو لم يكن قاضيا لزمه أن يجرحه عند غيره إذا استشهد به عليه رد شهادته إذا شهد عنده، ومن كان لا يجيزه حسا فهو يرى ظاهرا صالحا وليس بمداخل له ولا مختبرا حاله ولا هو في نفسه بحال رضى ولا هو مطلع منه على شيء قبيح فليسأله من يعدله ممن هو أخبر به منه، فإن لم يأت بمعدلين ممن يرضى وسعه ألا يجيز شهادته.
قال محمد بن رشد: قوله: إن القاضي لا يقبل الشاهد إذا لم يعرفه بعدالة ولا سخطة، وإن كان ظاهر الصلاح بمشاهدة الصلوات في المساجد، وبأنه لا يعرف بأمر قبيح هو قول جمهور أهل العلم ومذهب مالك رَحِمَهُ اللَّهُ وجميع أصحابه لا اختلاف بينهم فيه؛ لقول الله عز وجل: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] إذ لا يرضى إلا من تعرف عدالته، ومن أهل العلم من قال: إن الشاهد محمول على العدالة بظاهر الإسلام فتجوز شهادته ويحكم الحاكم بها إلا أن يجرحه المشهود عليه، وهو قول الحسن ومذهب الليث بن سعد على ظاهر قول عمر بن الخطاب: المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو قرابة، وقد أجاز ابن حبيب شهادة من ظاهره العدالة بالتوسم فيما يقع في الأسفار بين المسافرين من المعاملات والتجارات والأكرية بينهم وبين المكارين مراعاة لهذا القول، وحكي ذلك عن مالك وأصحابه، وهو خلاف ظاهر قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة إذ لم تجز شهادته للقرباء دون أن تعرف عدالتهم إلا أنه رخص في وجه تعديلهم فأجاز فيهم التعديل على التعديل، وروي عن يحيى بن عمر أنه أجاز شهادة من لم تعرف عدالته في الشيء اليسير، وذلك أيضا استحسان مراعاة لقول الليث ومن ذهب مذهبه، ولما سأله عن حد العدالة التي إذا علمها القاضي من الشاهد لزم قبول شهادته، قال: هو الذي يعلم من عدالته ما لو دعي إلى تزكيته لزمه أن يزكيه، وليس بجواب مقنع؛ لأن السؤال يبقى عليه في حد العدالة التي إذا عرفها لزمته التزكية، وأحسن ما يقال في حد العدالة التي تلزم بها التزكية وإجازة الشهادة هو أن يكون الرجل مجتنبا للكبائر، متوقيا من الصغائر، متصاونا عن الرذائل؛ لأن ارتكاب شيء من الكبائر فسوق، فمن أتى بكبيرة من الكبائر لم تجز شهادته حتى تعرف توبته منها، والصغائر لا يمكن السلامة منها من جميعها بدليل قول الله عز وجل لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] وقول الخضر لموسى: واستكثر من الحسنات، فإنك لابد مصيب السيئات، واعمل خيرا فإنك لابد عامل شرا، فمن لم يتوق منها ولا بالى بها لزمه اسم الفسق بالإكثار منها، والكبائر قيل فيها: إنها سبع لحديث أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وآكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» وسقط عن الراوي لهذا الحديث السابع وهو الزنى على ما جاء في غيره من الأحاديث، وقد جاء أن من الكبائر عقوق الوالدين وأكل الربا وشهادة الزور واستحلال بيت الله الحرام، ومما لا يختلف فيه أنه من الكبائر شرب الخمر والحرابة والسرقة، وما أشبه ذلك كثير، وقد جاء عن بعض أصحاب «النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سئل عن الكبائر فعد منها سبعة وقال: هن إلى السبعين أقرب» ولا يقال في شيء مما يعصي الله به إنه صغير إلا بالإضافة إلى ما هو أكبر منه؛ لأن كل ما استوجب به فاعله العقاب عليه من الله فهو كبير، هذا تحقيق القول في الصغائر والكبائر، وإنما شرطنا في صفة الشاهد أن يكون متصاونا عن الرذائل؛ لأن صيانة العرض من الدين فمن لم يصن عرضه لم يصن دينه، والله أعلم، وقوله ولم يسعه الوقوف عن تعديله يدل على أن من دعي إلى تعديل شاهد يعلم عدالته وجب عليه أن يعدله فرضا واجبا كما أنه يلزمه فرضا واجبا أن يشهد بما علمه إذا دعي إلى الشهادة لقول الله عز وجل: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] وهو نص قول ابن القاسم في المبسوطة، قال: إن وجد من يعدله غيره فهو في سعة وإلا لم يسعه إلا أن يعدله ولا يبطل حق امرئ مسلم، وقال ابن نافع: إن أراد الذي يعرفه أن يعدله فحسن، ووجه ذلك أنه لما كانت العدالة لا يقطع بها، وإنما يشهد أنه عدل بما يظهر إليه من حاله بطول اختباره وسعة التوقيف عن الشهادة لاحتمال أن يكون حاله على خلاف ما اختبر منه، وقول ابن القاسم أظهر؛ لأن الشهادة في هذا طريقها غلبة الظن، إذ لا سبيل فيها إلى حقيقة العلم، فإذا غلب على ظنه عدالته بطول الاختبار وجب عليه أن يزكيه كما يجب عليه أن يقبله ويحكم بشهادته إذا شهد عنده، وبالله التوفيق.